Sunday, December 30, 2012

بين الحب والجنون - قصة رمزية منقولة ؛ بتصرف وإعادة صياغة لإبن النيل




كانت الفضائل والرذائل تطوف العالم معا ، وتشعر بالملل الشديد ، وذات يوم ، وكحل لمشكلة الملل المستعصية ؛ اقترح الإبداع لعبة ، وأسماها الأستغماية .. أحب الجميع الفكرة ... وصرخ الحماس فَرِحاً : فكرة مدهشة .. كم أنت عبقري أيها الإبداع ! وقفز الجنون في المنتصف قائلاً : أريد أن أبدأ .. أريد أن أبدأ .. أنا من سيغمض عينيه ، ويبدأ العدّ ، وأنتم عليكم مباشرة الإختفاء ..
ثم أنـه إتكـأ بمرفقيه على شجرة ، وبدأ .. واحد .. اثنين .. ثلاثة ..
وبدأت الفضائل والرذائل بالإختباء .. وجدت الرقة مكاناً لنفسها خلف القمر وإختبأت بهدوء .. وأخفت الخيانة نفسها في كومة زبالة دون أن تتأفف .. وذهب الولع وإختبأ بين الغيوم .. ومضى الشوق إلى أبعد ما يستطيع في باطن الأرض .. رقدت الغيرة بقلق بين الصبَّار .. بينما قال الإيثار للرحمة : تعالي يا عزيزتي وإختبأي ورائي ، فهمست الرحمة بحنو : أخشى عليك من الجنون ، فأمسك الإيثار بيدها قائلاً : تعالي ولا تخشي شيئاً .. قال الكذب بصوت عال: سأخفي نفسي تحت الحجارة .. ثم توجه لقعر البحيرة .. واستمر الجنون في العدّ: تسعة وسبعون .. ثمانون .. واحد وثمانون .. خلال ذلك أتمت كل الفضائل والرذائل تخفيها .. ما عدا الحب .. كعادته .. لم يكن صاحب قرار .. وبالتالي لم يقرر أين يختفي ، وهذا غير مفاجيء لأحد .. فنحن نعلم كم هو صعب إخفاء الحب .. !
تابع الجنون: خمسة وتسعون .. سبعة وتسعون .. وعندما وصل الجنون في تعداده الى مائة ؛ قفز الحب فجأة وسط أجمة من الورد ، واختفى بداخلها ..
فتح الجنون عينيه .. وبدأ البحث صائحاً : أنا آت اليكم .. أنا آت اليكم .. لن يفلت أحد منكم .. 
كان الكسل أول من إنكشف ؛ لأنه لم يبذل أي جهد في إخفاء نفسه .. ثم وجد الرقة المختفية وراء القمر ببساطة .. وبعدها .. خرج الكذب من قاع البحيرة مقطوع النفس .. !! وعثر على العدل بين شجرتين لكنه آثر أن يكون في المنتصف تماماً فكان ظاهراً ، وظهرت الخيانة خصيصاً كي ترشد عن الشوق وأشارت إليه أن يرجع من باطن الأرض .. وجدهم الجنون جميعاً .. واحداً بعد الآخر .. ما عدا الحب.. كاد يصاب بالأحباط واليأس في بحثه عن الحب .. إلى أن اقترب منه الحسد ، وهمس في أذنه: الحب مختف في شجيرة الورد .. على الفور التقط الجنون شوكة خشبية أشبه بالرمح .. وبدأ في طعن شجيرة الورد بشكل طائش ليخرج منها الحب ، ولم يتوقف الا عندما سمع صوت بكاء يمزق نياط القلوب ..
ظهر الحب.. وهو يحجب عينيه بيديه .. والدم يقطر من بين أصابعه ..
صاح الجنون ملتاعاً ونادماً: يا الهي ماذا فعلت ؟ .. لقد أفقدتك البصر .. فأي جُرمِ هذا الذي فعلت ؟!
أرجوك قل لي ، ماذا أفعل كي أصلح غلطتي بعد أن أفقدتك البصر ؟
أجابه الحب : لن تستطيع فعل شئ ، سوى أن تقودني وتدلني على الطريق
وهذا ما حصل من يومها .. يمضي الحب أعمى .. يقوده الجنون !

ادخل .. ثم إرفع رجليك ..

"حين أُسلم عقلي لغيري أكون في أتعس حالاتي" كانت هذه الفكرة تسيطر على تفكيري طوال الطريق إلى المحطة الرئيسية للسكة الحديد .. كان الجو بارداً بعض الشئ فنحن في أواخر يناير والوقت مساء ، لكن هذا لم يضايقني كثيراً ، فهذا (البالطو) –أرى كلمة المِعطف ثقيلة- يوفر لي الدفء و (الجيوب) التي أضع فيها أشيائي الصغيرة .. الكثيرة. وكنتُ أحدث نفسي بتمرد: "هل أقضي حياتي كلها أجري وراء الواجبات الإجتماعية ؟! فهذه خطوبة فلان وهذا فرح علان ؟! .. آه كم أكره هذه الأجواء .. إنها مسرحية سخيفة يسمونها (واجبات) .. لا زلت أذكر حديثي مع أحد الأشخاص وهو يقول لي : تصدق الراجل ما جانيش في فرح بنتي رغم أني عملت معاه (الواجب) في فرح إبنه ! تفتكر سبته؟ وحياتك رحت له وخبّطت عليه الباب ، وقلت له مش أنا ليا واجب عندك .. راح إتكسف ودخل جوه جاب لي الخمسين جنيه اللي نقطته بيها ! .. ما أن سمعت ذلك حتى قلت له بضيق: وبتسموه (واجب) ؟ ما تسمّوه (جمعية) وخلاص .. فضحك ببساطة وهو يقول: ما هي جمعية .. أمال أنت فاكر أيه" .. تذكرت ذلك وأنا أتحسس (ظرف النقطة) في جيبي وأهمس "يخرب عقولكوا .. حولتوا كل شئ جميل في حياتنا لشئ قبيح حتى (الواجب) اللي الناس كانت بتعملوا بمحبة بقى عبارة عن (كراسة واجب) لتسديد الديون ! هوه كان حد قالكوا تيجوا عشان تنقطوا ، وتجرجرونا وراكوا نسدد هنا وهنا؟! بقى أحنا متعلمين إحنا؟! لما ناس جهلة زي دول يفرضوا أسلوبهم علينا! أفقتُ من هذه السرحة الغاضبة ، وأنا أدخل محطة القطار الرئيسية برمسيس ، كنت نسيت أنهم أفتتحوها منذ عدة أيام .. فنظرت إلى السقف وأنا أقول: أيه الفخامة دي .. لكني لاحظت إن معظم الواجهات من الزجاج ، والديكورات عبارة عن مسلات مقلوبة من الزجاج ذات سن مدبب يسهل كسره .. فهمست بعد الإنطباع الأول المنبهر " بس مش عملي خالص طبعاً .. خسارة" دخلتُ إلى حيث شبابيك التذاكر ، وكان الزحام شديداً والصياح عالياً ، والطوابير (معجنة) .. احترت وتسمرت في مكاني لوهلة وهمست في ضيق " بدأنا " .. هنا لم تكن هناك تكييفات ولا مراوح ورغم أن الجو شتاء إلا أن تزاحم الناس وأنفاسهم وملابسهم الثقيلة في هذا الحيز الضيق ، وعدم وجود تهوية جعل الجو خانقاً ولزجاً .. ما باليد حيلة .. حشرت نفسي في أحد هذه الطوابير وبدأت معركة الحصول على تذكرة .. وصلتُ بعد معاناة إلى شباك التذاكر وأنا ألهث ، وصرختُ عالياً حتى أغطي على إعتراضات الناس وسبابهم : واحدة تانية مكيف لو سمحت .. فإذا بالرجل يضع يده على أذنه وشفتاه تتحركان بلا صوت كأنه يقول : هه ؟ يا خبر ! ده الراجل مش سامعني ولا أنا سامعه .. نظرت بتلقائية إلى الزجاج بيننا فإذا به سميكاً جداً ، ولا يُنفذ الصوت .. ده أيه العبقرية دي ! ظللت أصرخ وأشاور بيدي وأحاول تذكر إشارات الصُم والبُكم التي رأيتها من قبل ، وكذلك كان يفعل الرجل من وراء الزجاج حتى فهمت منه إن "مفيش تانية مكيف" ، ورددت عليه بنفس الإشارات "هات واحدة أولى مكيف مفيش مشكلة" أخيراً خرجت وأنا أرفع التذكرة عالياً مثل كأس العالم ، وقد تكسر (البالطو) كأنه خرج تواً من بين فكي كلب. خرجت إلى الصالة وسويت البالطو وأنا أصبّر نفسي على طريقة المثقفين " لا يهم ما دام معي تذكرة أولى مكيف ، وكتاب مسلي في حقيبتي. " .. وجلست أنتظر القطار. جاء القطار مبكراً عن ميعاده ورغم ذلك تزاحم الناس كالعادة .. بينما ظللت أنا أقرأ في جريدة الأهرام المسائي حتى ينتهوا من تزاحمهم ، فقد بقي حوالي ثلث ساعة على موعد تحرك القطار .. قضيت ربع ساعة أخرى في القراءة حتى هدأت الأمور تماماً ، وصعدت إلى العربة المدونة على التذكرة .. كان الناس قد إستقروا في أماكنهم ، بل أن منهم من أخذ وضع النوم .. وما أن دخلت حتى لاحظت شيئاً .. لاحظت أن سيدة ترفع قدميها عالياً وتسندها على ظهر المقعد الذي أمامها ، ولكنها ترفعها أكثر من المعتاد .. فإبتسمت وبدأت أسير بحثاً عن رقم مقعدي ، ولكني لاحظت شيئاً آخر أكثر غرابة .. لاحظت أن كل الناس في عربة القطار رجالاً ونساءاً يرفعون أقدامهم ويسندونها على المقاعد التي أمامهم ، ودائماً أقدام السيدات مرفوعة أعلى من المعتاد فإندهشت. وجدت مقعدي أخيراً وجلست .. كان المنظر قد أستولى عليَّ تماماً .. كيف إتفقوا هكذا أن يرفعوا أرجلهم جميعاً في وقت واحد ؛ نحن الذين من الصعب أن نتفق على شئ ؟! وبدأت أخمن .. هل كان العمال يمسحون أرضية العربة فطلبوا منهم أن يرفعوا أرجلهم حتى لا تبتل ؟ بنظرة واحدة إلى أرضية العربة أدركت أن الماء لم يمسسها منذ شهور .. فزاد إندهاشي .. هل هي صدفة ؟ صعب جداً فالجميع بلا إستثناء يرفعون أرجلهم. فكرت أن أرفع قدميَّ أنا الآخر رغم أنني لا أعرف السبب .. ولكن ليس معقولاً أن يكون الجميع على خطأ .. وأخيراً .. جاءت عيناي في عينيه الصغيرتين .. كان يقف متحفزأ بلا خوف ، وقد صعّبَ لونه الرصاصي من مهمة تمييزه مع هذه الإضاءة الضعيفة .. كان ينظر إليَّ بتحدي غريب .. ثم فجأة مرق كالسهم تحت الكراسي .. وفي هذه اللحظة رفعتُ قدميَّ بسرعة ووجل ، فلاحظت بعض الإبتسامات الخفيفة من حولي. وبدأت أصوات الشكوى تتعالى بعد أن كان الصمت يخيم على العربة .. "ناس قذرة" "القطر كله مليان فيران" "آدي يا عم الأولى مكيف" "أمال الثالثة تبقى أيه" كنتُ أحسب أن حكاية (مليان فيران) هذه مجرد مبالغة مصرية لكن المأساة الحقيقية بدأت تتكشف بعد تحرك القطار .. فقد بُدرت أرضية العربة بالفئران من كل حجم ، ولم تكتف بالتسابق تحت المقاعد لكنها بدأت تقفز
فوق المقاعد ، وفي أقفية الناس ووجوهم وتحاول دخول حقائبهم ، وكنت أسمع بين الحين والآخر سيدة تصرخ وزوجها يسب .. ورغم ذلك كان أغلب الناس صابرين. لم أُخرج الكتاب من الحقيبة ، ولكني قضيت الوقت سارحاً ومهموماً .. وما أن توقف القطار في أول محطة حتى صعد رجل وقد لاحظ أن كل الناس يرفعون أرجلهم فإبتسم بسخرية ، لكن ما أن جلس ورأى هذه المخلوقات الجهنمية التي تجري في كل إتجاه حتى رفع رجليه مذعوراً ، فإبتسمتُ بمرارة. قضيت الوقت أُسلي نفسي بملاحظة وجوه الناس التي تركب من المحطات ، وإنطباعاتهم .. فوضعنا (هكذا) كان مُتعِباً وغريباً ومُهيناً .. فلا نحن جالسون ولا نحن واقفون ، ومحطة الوصول لا زالت بعيدة. (بقلم : إبن النيل)